لغة بريل أو برايل أو بغاي كما ينطقها الفرنسيون، هي لغة عظيمة كما نعلم جميعًا. اللغة التي ابتكرها الفرنسي لويس برايل Louis Braille بعدما فقد بصره بسبب تعرضه لحادث في مرحلة الطفولة في سن الثالثة، ليفقد القدرة على الإبصار كليًا في سن الخامسة؛ مما جعله يسعى لاحقًا إلى اختراع لغة في الأبجدية الفرنسية لمساعدته على القراءة دون رؤية. هناك من ينسب نشأتها إلى المهندس والمخترع تشارلز باربير Charles Barbier، الذي طور لغة صامتة بناء على طلب نابليون كطريقة للتواصل بين الجنود في الظلام دون الحاجة لضوء. هذا صحيح لحد كبير، لكن الفضل في الغالب يعود إلى برايل الذي اعتنى بلغة باربير وطورها، ناشرًا عددًا من الأبحاث عنها ثم قام بتحسينها وتوسيع نظام كتابته ليشمل رموز الرياضيات والموسيقى.
نُشر أول كتاب بنظام كتابة بريل في عام 1829، وأصبح برايل مدرّسا في معهد المكفوفين اليافعين بباريس الذي درس به صغيرًا، ولكن لم يتم اعتماد نظام كتابته الجديد رسميًا في المعهد في فترة حياته بل اعتُمد النظام رسميًا في فرنسا في عام 1854، أي بعد وفاة برايل بعامين. كانت حياة برايل قصيرة إذ مات في سن الثانية والأربعين فقط؛ لكنها كانت متوهجة وضعت الأساس لنظام منح الحياة حرفيًا للمكفوفين بمنحهم الحق والقدرة على التعلم بلا مشاكل.
لكن في عصرنا الحديث للغاية، ومع تراجع القراءة الورقية أكثر فأكثر والاعتماد على الأشكال الرقمية للمعرفة، شكّل الوضع الجديد تحديًا للمكفوفين حول العالم. تخيلوا معي لو أراد شخص كفيف قراءة المقال الذي تقرأونه الآن، أو مطالعة تطبيق فيسبوك، أو استكشاف الصور الأخيرة الفائزة في مشابقة ناشونال جيوجرافيك؛ كيف له أن يقوم بهذا؟ لا سبيل أمامه إلا الانتظار حتى يتم تحويل تلك النصوص والصور إلى نظام برايل أو يلجأ إلى نظام الاستماع الصوتي للمحتوى والذي يعيبه بالطبع عدم قدرته على تجسيد الصور وكذلك عدم توفره على كافة المنصات دومًا.
لكن هذا على وشك التغيير تمامًا مع الجهاز الثوري الجديد بيلتاب Blitab! بليتاب هو جهاز لوحي Tablet بشاشة لمس تقليدية في الثلث السفلي من الواجهة وشاشة أخرى مبتكرة أكبر حجمًا في النصف العلوي تترجم ما تعرضه الشاشة السفلى إلى محتوى مقروء بطريقة برايل! أي أن أي محتوى سواء كان نصًا أو صورة أو تطبيقًا يتم عرضه في الشاشة السفلية، يمكن لأي كفيف أن يتعرف على محتواها ويتفاعل معها في الشاشة العليا ولحظيًا! مدهش، أليس كذلك؟!
وعلى الرغم من أن هناك أجهزة أقدم في السوق بشاشات تقوم بوظائف مماثلة، إلا أنه يعيبها أمران مهمان هنا، الأول هو سعرها الباهظ، حيث يصل سعرها إلى 5000 دولار أمريكي، وثانيهما هو أنها تحوي صفًا واحدًا من الثقوب والبروز التي تتحرك للأعلى والأسفل؛ أي أنك لا تستطيع إلا قراءة عدد قليل من الكلمات لا يتعدى أصابع اليد في المرة الواحدة. تخيلوا معي قراءة رواية مهولة الحجم كهاري بوتر أو سيد الخواتم بأن تقرأ خمس كلمات في كل صفحة! هذا جنوني بالطبع!
لكن مع بليتاب الأمر يختلف بشكل ثوري يستحق الحماسة حقًا! فبالنسبة للسعر، يُنتظر أن يتم طرح الجهاز بسعر لن يتعدى 500 دولار أمريكي لا أكثر. قد تعد هذا السعر مرتفعًا، لكن بالمقارنة بسعر ما هو مطروح بالفعل وكذلك بما يستطيع فعله، ستجد أن الجهاز رخيص نسبيًا مقارنة حتى بجهاز لوحي تقليدي يمكنك امتلاكه هذه الأيام.
كذلك تتمتع شاشة برايل العلوية في بليتاب بـ 14 صفًا كاملًا ، كل منها يحوي 23 خلية بـ 6 نقاط (ثقوب) لكل خلية! كل خلية يمكنها تمثيل حرف من حروف أبجدية برايل، وأسفل تلك الخلايا توجد طبقات عديدة من السوائل ونوع خاص من الأغشية التي تنبثق عبر الثقوب لتمثل الحروف على هيئة ما يشبه الفقاقيع التي تظهر وتختفي بتغير المحتوى!
كيف يعمل
النموذج الذي ترونه في هذا المقال يحول النص المعروض في شاشة اللمس السفلية إلى لغة برايل بالضغط على زر جانبي في بليتاب؛ حيث يعمل محرك دقيق كهروميكانيكي تحت كل ثقب في الشاشة العلوية على دفع فقاعة صغيرة أو سحبها بما يتناسب مع الترجمة التي يجب عرضها. وبالضغط على زر آخر على جانب الجهاز، يتم تنشيط شاشة برايل من جديد وتحديثها بمحتوى الصفحة التالية.
شاشة اللمس السفلية في بليتاب تعمل بنظام أندرويد الذي تطوره جوجل، ويحوي خاصية قراءة المحتوى التي يضمها أي جهاز ذكي حديث. بأتي بليتاب كذلك مزودًا بتطبيق لوحة كتابة بطريقة برايل، أي أن المستخدم لن يستطيع القراءة فحسب، بل الكتابة والتفاعل مع المحتوى أيضًا!
كل ما سبق مدهش بالطبع ويمثل بالفعل ثورة في إمكانية الوصول للمكفوفين وضعاف البصر، لكنك قد تجادل بان نسبة من يستطيعون القراءة بطريقة برايل ليست بالكبيرة بين المكفوفين؛ وهذا صحيح إلى حد كبير في ضوء إحدى الدراسات الحديثة التي قام بها الاتحاد الوطني للمكفوفين في الولايات المتحدة، والتي أشارت إلى أن 10٪ فقط من المكفوفين المسجلين رسميًا بالبلاد يستطيعون القراءة بطريقة برايل. ما بالكم إذن بالوضع في بلادنا العربية!
لكن، وبالرغم من هذا، يشير البروفيسور جوناثان ليزر Jonathan Lazar، أستاذ الحاسب وتكنولوجيا المعلومات بجامعة تاوسون، إلى أن توفر أجهزة مثل بليتاب بهذه الأمكانيات والسعر المنخفض سيزيد من اهتمام شريحة كبيرة من المكفوفين بتعلم واستخدام نظام برايل.
الملاحظة الغريبة هنا بالنسبة لي عند زيارة موقع الشركة المطورة، هو استعراضها لعدد من الصور التي تضم أطفالًا وبالغين يستخدمون جهاز بليتاب في استمتاع كما ترون بالأعلى. لا اعتراض بالطبع على أن يستمتعوا باستخدام بليتاب، فقط لاحظت أن معظم الصور تضم أشخاصا مبصرين يستخدمون الشاشة السفلية للجهاز! وعلى الرغم من أنه يمكن قراءة برايل بالعين لمن يعرفها بالطبع، لكن هذا يتعارض مع الغرض الرئيسي للجهاز في الأصل! ربما أكون مخطئًا وربما يفوتني هنا شيء ما؛ قد يكونون ضعاف البصر مثلًا أو أن الجهة التسويقية للمشروع ترغب في عدم إظهار الصور بشكل صادم أو قاس. ربما!