انترنت

الانتقال الآني للبشر … هل هو ممكن حقًا؟!

هناك تلك الأفكار والتي من شدة جاذبيتها وروعتها تجعل البشر، بمن فيهم العلماء، يتمسكون بها ويعملون على تنفيذها أو على الأقل إثبات إمكانية تنفيذها مهما كانت تلك الأفكار مستحيلة عملياً. في رأيي لا يوجد ما هو أوضح وأكبر كمثال على هذا من أفكار الانتقال الآني Teleportation للبشر والسفر عبر الزمن.

قد تكون لاحظت إرداف صفة “الكمي” وكلمة “للبشر” إلى الانتقال الآني في العنوان، فما الفارق؟ حسناً، نحن “ننتقل” “كمياً” وبسهولة تامة باستخدام المركبات على اختلافها (سيارة، طائرة، سفينة، إلخ) للتحرك بين نقطة ونقطة أخرى، لكننا فعلياً وفي كل لحظة تمر علينا في عملية الانتقال هذه نسجل وجوداً على خط الانتقال بين النقطتين. فمثلاً، وكي أنتقل من منزلي إلى عملي، أمر على 9 إشارات مرور، أعبر بجانب مئات البشر، يلامس إطار السيارة التي أستقلها عشرات الكيلومترات من الإسفلت، ويحلل عقلي ملايين البيانات والمدخلات بينما “أنتقل”، في عملية تستغرق بين أربع ساعات إلى خمس ساعات (حدثني عن الازدحام المروري الخانق بمصر!).

الآن، ماذا لو استطعت أن تنتقل لحظياً (آنياً)؟ أنت الآن في منزلك، ثم “الآن” أنت في عملك! لم يمر ما يمكن أن نطلق عليه زمن! لقد تم نقل “كتلتك” و”كمك” بدقة متناهية من نقطة إلى نقطة أخرى في لا وقت تقريباً! عظيم بالطبع! لكن هل نجح العلماء في تحقيق هذا؟! أجل نجحوا… لكن ليس مع البشر!

هذه هي معضلة الانتقال الآني: البشر. فبينما نجح العلماء في تحقيق الانتقال الكمي معملياً (على فوتونات لعوبة أثارت جنون أينشتاين نفسه)، سيظل البشر هو التحدي المستحيل، وذلك لأسباب كثيرة ومفارقات شهيرة.

المشكلة ها هنا هو أن الطبيعة تمارس معنا لعبة قاسية مخيفة؛ فما نعتقد نحن أنه مستحيل لا طاقة لنا به، نجد الطبيعة تطبقه وتلهو به! والنتيجة؟ آلاف النظريات التي تحاول أن تفسر ما نرصده ويحدث بسهولة وانسيابية منذ ملايين السنين حولنا، تمهيداً لتطويعه بما يخدمنا؛ لكن هل يمكن لهذا أن يحدث يوماً؟! لنبحث هذا سريعاً سوياً…

مفارقة آلة الانتحار

بديهياً، وكي يتم نقل “كتلتك” وجسمك بالكامل لحظياً من مكان إلى آخر، فإنه في البداية يجب تفكيكك! لا مزاح في هذا! كيف ستنقل نفسك في الآثير ككتلة واحدة؟! يجب أولاً تفكيكك على المستوى الذري كي يتم تجميعك مرة أخرى في النقطة التي تريد. هل أدركت الفخ المنصوب! سننتقل إلى الجهة الأخرى لحظياً، لكننا سنصل جثة هامدة!

جراء هذه المفارقة، قد يقتصر عمل الانتقال الكمي الآني، إذا ما أصبح هناك شيئاً كهذا مستقبلاً، على الجمادات بلا روح. لا مشكلة لدى مطلقاً في تفكيك الهدية التي أود إرسالها “لحظيا” إلى ابنتي في عيد ميلادها بشرط حصولي على توقيع كتابي يضمن لي عمل الهدية بكفاءة عند الاستلام!

مفارقة عرض نطاق البيانات

لنفترض جدلاً، أننا وبمعجزة ما نجحنا في التوصل إلى آلية لتفكيك جسم إنسان بدقة متناهية إلى جزيئات مع الحفاظ علىحياته ثم نقلها لحظياً إلى مكان آخر حيث سيتم تجميعه بحذافيره مجدداً. حسناً، ما ينقصنا الآن هو الوسيط أو الآلية التي سيتم بها نقله بسرعة لحظية؛ هل لدينا بديل أسرع من الانترنت في نقل البيانات الضخمة؟! ولأن الإجابة لا، فكل ما علينا الآن بعد نجاحنا في تفكيك الإنسان بنجاح والإبقاء على حياته في الوقت نفسه هو فك شفرة الجينوم لكل خلية في جسم الإنسان وتحويلها إلى بيانات يمكن نقلها بحيث يعاد تجميعها مرة أخرى في الجهة المطلوب السفر إليها. حسناً، كم هو حجم بيانات كل خلية واحدة؟ 10 مليار بت! كم هو حجم بيانات المخ البشري وحده؟ 2.6×1042  بت! لنقرأ هذا الرقم الخاص بالمخ وحده مفرداً:

2,600,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000 بت!

هذا هو المخ وحده! لم نقترب بعد من بقية الجسم!

هل لا يزل لديك أمل؟! حسناً، باستخدام أقصى عرض نطاق لسرعة نقل البيانات على الانترنت (1.125 تيرابت/الثانية- الرقم القياسي في سرعة نقل البيانات على شبكة الانترنت حتى الآن) كم سيستغرق نقل المخ وحده؟ 4.85×1015  سنة! فلنقرأ الرقم مفرداً:

4,850,000,000,000,000,00  سنة

هذا أكبر من عمر الكون نفسه بـ 350 ألف مرة! أعتقد أني أفضل ركوب مترو الأنفاق أسرع!

مفارقة الذبابة “اللعينة

هذه المشكلة هي الهاجس الأكبر لدى كل من يفكر في الانتقال الكمي الآني. ما الذي يضمن بينما يتم نقل جزيئاتي لحظياً أن تنتقل معها جزئيات “شيء” آخر تواجد بالصدفة معي لحظة التفكيك؟! ما الذي يمنع المصيبة أن يكون هذا الشيء “ذبابة” مثلاً؟

مفارقتنا هذه شبيهة بمفارقة “السائل المذيب”، حيث يفترض أن يخترع أحد العلماء مادة تذيب أي شيء، وأعني أي شيء! لقد تم إنجاز الشق الأصعب في الأمر وتم اكتشاف المادة السحرية، لكن تبقى شيء بسيط: أي إناء قد يحمل هذه المادة دون أن يذوب هو الآخر؟!

لذا، وعلى نفس القياس، كيف لنا أن نفكك جسماً بشرياً بشحمه ولحمه دون أي شيء آخر مهما صغر من حوله؟ ذرة تراب شاردة قد تفسد كل شيء؟ هل تود حقاً المخاطرة في أمر كهذا؟ ولو نجحنا في تحقيق الأمان والعزل الكامل للجسم عند التفكيك، ماذا لو تم تبديل ذرة يفترض تجميعها في المخ بذرة أخرى مكانها الساق؟!

هل نود فعلاً المخاطرة والتجربة؟! أنت أولاً من فضلك!

مفارقة النسخة غير المطلوبة

قد تلمع عيني أحدنا ويقول بذكاء: ماذا عن طباعة نفسي في مكان آخر؟ سيحل هذا بالتأكيد مفارقة آلة الانتحار والذبابة “اللعينة”؛ حيث سنقوم بمسح الجسم بدقة على المستوى الذري، ونقل بياناته إلى المكان المطلوب الانتقال إليه، ومن ثم طباعته مجدداً بنفس طريقة الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تحدثنا عليها منذ دقائق.

عظيم! لكن ماذا عن الروح؟! كيف ستتحرك تلك النسخة؟ بالبطاريات؟! وماذا عن مشكلة نطاق نقل البيانات؟ لمَا يزل يتوجب علينا نقل ذات الكمية المهولة من البيانات!

والأهم هو أنك في الواقع لم تتحرك قيد أنملة من مكانك! أنت لم تذهب لزيارة أسرتك، بل أرسلت نسخة لك للقيام بهذا! وبهذه الطريقة سيتضاعف عدد سكان العالم ملايين المرات خلال ثواني معدودة! لا تفكر في هذا الحل أرجوك!

لكن هل هذا يعني حقًا استحالة الانتقال الآني للبشر مستقبلًا؟! بالطبع لا! فقط الفكرة تبدو مستحيلة نظريًا على البشر للقيود التي تلازم أدواتنا التي نعمل بها وكذلك طرقنا في التعامل مع العالم من حولنا، ودعني أخبرك أن كل هذه القيود تنهار شيئًا فشيئًا مع غوصنا أكثر وأكثر في فيزياء الكم الحديثة التي تبدو مستحيلة لا تلين. لربما هذا ما يتطلبه الأمر لتحقيق المستحيل … فهمه لا أكثر!

عالم الابداع.

إغلاق