للكثيرين منا، هناك ذلك الاعتقاد السائد بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تبدأ معرفتها بالإسلام إلا بالقرن العشرين، مع حركة أمة الإسلام وبالارتباط مع أشخاص كإليجا محمد ومالك شباز الملقب بـ “مالكوم إكس”. هذه ليست معلومة دقيقة بالطبع، وكما نعرف فحركة أمة الإسلام الأصلية لمؤسسها إليجا محمد لا يجب أن نعتبر لها أي رابط بالإسلام الحقيقي سوى الاسم الزائف الذي اختاره إليجا لها، والتي تنصل منها مالكوم لاحقًا. من قرأ تاريخ حركة أمه الإسلام أو حتى شاهد فيلمMalcolm X يعلم كيف دارت رحى المعركة بين إليجا محمد ومالكوم وكيف كانت النهاية مأساوية للأخير. لكن هذا ليس موضوع مقالنا على أية حال.
وبالعودة إلى تاريخ الإسلام بالولايات المتحدة الأمريكية، نجد أنه ليس بالحديث على الإطلاق؛ حيث يرجع إلى القرن السادس عشر الميلادي مع وصول أحد أفراد حملة الاستكشاف إلى القارة الأمريكية وكان مسلمًا مغربيًا من شمال إفريقيا يدعى “ايستفانكو أوف اذامورا Estevanico of Azemmour” أو مصطفى الأزموري، من مدينة أزمور المغربية، تحت راية المستكشف ألفار نونييث كابيثا دي فاكا
Álvar Núñez Cabeza de Vaca عام 1539م. لكن وجود المساجد كمكان للعبادة هناك تأخر عن ذلك كما نرى في مقطع الفيديو التالي (إنتاج قناة كويست عربية Quest Arabiya)
كان الاعتقاد السابق بشأن أقدم مسجد في الولايات المتحدة أنه الموجود بمدينة سيدار رابيدز Cedar Rapids، ولاية آيوا، والذي تم تأسيسه سنة 1934؛ ولكن في الوافع هناك مسجد آخر في مدينة روس بولاية داكوتا الشمالية، وهو الأقدم حيث يعد أول مسجد في أمريكا بتاريخ يعود لسنة 1929 على يد المهاجرين من اللبنانيين والسوريين اللذين جاؤوا إلى سهول داكوتا الشمالية المنبسطة في السنوات الأولى من القرن العشرين بحثًا عن فرص عمل ومستقبل آخر.
لكن المؤسف هنا هو أنه خلال أربعينيات القرن العشرين، لم يكن هناك من يستخدم المسجد يحالته البسيطة للغاية. هكذا وفي السبعينيات اجتمع الأحفاد وأبناء الأحفاد من المهاجرين على قرار هدم المسجد؛ وهو قرار سيندمون عليه جميعًا لاحقًا، فقيمة ذلك البنيان البسيط والمتهالك لم تكن يومًا في مادة بنائه وإنما في رمزيته وأصالة تاريخه.
هكذا، وفي صيف 2015 تم الاحتفال بافتتاح المبنى الجديد لأول مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية وفي نفس موقع المسجد القديم. وبينما يشغل الصرح الجديد نصف حجم المسجد الأصلي، إلا أنه بني بالكامل فوق سطح الأرض، ويتكون من الخرسانة مع تزيين الواجهة بالحجارة، تعلوه قبته البرونزية المزدانة بأربع مآذن.
وحاليًا، أصبح المسجد معلمًا شاهدًا على التاريخ ورمزًا للتراث الإسلامي الأمريكي، وإن كان لا يستخدم للصلاة الجماعية المنتظمة. وإن تيسر لك زيارته يومًا، ستجد به سجادة للصلاة مفروشة باتجاه القبلة وصور لعدد من المقيمين الأوائل في المنطقة والموتى المدفونين في المقبرة.
ولنعد مرة أخرى لمسجد سيدار رابيدز Cedar Rapids، ولاية آيوا Iowa. حيث يمكننا اعتباره بالفعل أول مسجد بني في الولايات المتحدة الأمريكية خصيصاً للصلاة ولا يزال قائماً حتى الآن.
يدعى هذا المسجد تحديدًا بـ The Mother Mosque of America أو المسجد الأم لأمريكا، وقد تم بناءه عام 1934 بواسطة مهاجرين عرب أغلبهم من سوريا ولبنان جلبوا معهم مصاحف القرآن الكريم وكتب للفقه وعلوم الدين من العصر العثماني.
لكن المسجد الأم كان على موعد مع حادثة دمار مؤسفة عام 2008، عندما شهدت ولاية أيوا فيضانات مدمرة بعد استمرار الأمطار لسبعة أيام متتالية دون توقف فغرقت الغرفة السفلية للمسجد التي كانت تضم مصاحف وكتب وسجادات صلاة من العصر العثماني بالإضافة إلى وثائق تاريخية تروي قصة أوائل المهاجرين العرب المسلمين للمنطقة، بالإضافة إلى بعض التقارير صحفية والصور، والمذكرات، والقصائد المكتوبة التي كتبها المسلمين هناك وتروي تاريخ وجودهم في تلك المنطقة.
حينها حدث أمر سحري: اجتمع سكان المدينة على اختلاف طوائفهم من أجل أنقاذ المسجد ومحتوياته من الدمار وقاموا بترميمه. تضم وقائع تلك الحادثة اجتماع الجميع، مسلمون ومسيحيون ويهود لتنظيف وإصلاح المسجد بأنفسهم وإزالة أثار الدمار؛ بالإضافة إلى محاولاتهم المستميتة لتجفيف واستعادة المصاحف والكتب النادرة بفرشها وتعريضها لأشعة الشمس!
ونظرًا لأمية هذا المسجد وتاريخه العريق تم وضع المسجد الأم لأمريكا على السجل التاريخي لولاية أيوا والسجل القومي للأماكن التاريخية في الولايات المتحدة، باعتباره جزءً مهمًا من التاريخ الديني الأمريكي، والذي يرمز إلى التسامح وقبول الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة.
عالم الابداع.